القصة: العنوان : القَسَم
على وقع خطوات اللصوص تسلل إلى البيت بعد سهرة أمضاها رفقة شباب عصابته كما هي عادته مذ ترك مقاعد الدراسة و قرر الانخراط في عالم عصابات الشوارع الذي لا يرحم. فتح باب الشقة برفق شديد لألّا يوقظ أحدا، غير أنه تفاجأ بأخته الكبرى سناء التي سرعان ما خرجت من المطبخ مهرولة إليه تمسكه من ياقته: " بالله عليك.. أين كنت؟ لماذا لم تجِب على اتصالاتي ؟ " أزاح يدها عن ملابسه، و هو يجيبها ببلادة: "ماذا... لن تحل نهاية العالم إن لم أجب و انتظرتم قدومي... أليس كذلك؟ " ثم تجاهلها و هم بالدخول إلى قاعة الاستقبال بحثا عن أخيه إياد الذي اعتاد السهر، لكن يدا سحبته إلى خلف، و على غرّة منه تلقى صفعة قوية لم يتوقعها. فصرخت فيه: "أيها الأحمق المتذاكي... إلى متى ستظل على هذه الحال؟ بين السهر والتدخين و رفاق السوء...؟ إنك تسير على نفس خطاه... مثل أبيك تماما أيها الأبله... "لن تحل نهاية العالم إن لم أجب".. اتصلنا بك أكثر من عشرين مرّة لتأتينا بسيارة أجرة ننقل بها ريان إلى المستشفى أيها الأرعن البليد..." صمتت فجأة بعدما شعرت به يفقد توازنه كأنما تلقى صدمة أخرسته عن الكلام و شلت عضلاته كلها. إذن بعد كلّ هذا هو يشبهه فقط، هو ليس أفضل منه في شيء. خيم صمت وجيز، و مرّ امامه فجأة طيف حوار قديم دار بينه و بين أستاذ الرياضة يوم قرر توديع مقاعد الدراسة: "ما الذي تنوي جنيه بتركك لدراستك هكذا في منتصف الطريق؟ فكر في مستقبلك يا عماد..." " سأحقق انتقامي أولا، سأعثر عليه، سأقتله.. و بعدها سأفكر في مستقبلي" " لن يفيدك الانتقام في شيء، سيزيدك ألما فقط... و ربما ستصير أسوأ منه" " إنه قراري، مهما يكن، لن أتراجع" ثم عاد إلى نفسه الآن و راح قلبه يردد في سره: "إذن لست سوى نسخة عنه.. هههه يا للسخرية.. أكل ما فعلته ذهب سدى.. ؟" عاد به عقله إلى سناء التي كانت واقفة أمامه مشدوهة ليدرك أن الصدمة أجلسته على أرضية الممر من دون أن يشعر، فسألها بصوتٍ هادئ لم تسمعه منذ أربع سنوات: "ما الذي جرى؟ ما بها ريان ؟ " لكم اشتاقت لصوته الحاني؛ اضطربت أواصرها ولم تدرِ بما تجيبه ساعتها، إذ إنها تدرك جيدا أن ريان – صغيرة البيت – قرة عينيه و روحه. محال أن يطالها شيء في حضرته. هكذا كان القسم الذي أقسم عليه ثلاثتهم. أجابته بحسرة: "اليوم، و بينما كنت أعد العشاء، توجهت إلى غرفة نومنا لأطلب منها مساعدتي، لكني وجدتها جالسة إلى طاولتها الصغيرة و أنفها ينزف دما، و شفتيها مزرقان، لم أفهم ما جرى، و قد كان إياد في موعد مع خطيبته رنا، فلم أشأ إزعاجه و اتصلت بك مرارا... و لأنك لم تجب... اضطررت أن أفسد عليه موعده، و أنت تعرف التتمة." " و ما الذي قاله الطبيب ؟" سألها مسايرا بعدما فقد كلّ إحساس بالحياة و شعر برجولته تهدم بين عينيه. أجابته بحزن: "إنها في غيبوبة يا عماد... غيبوبة ناتجة عن جرعة زائدة من المهلوسات.. أتصدق ذلك ؟" اتسعت حدقتا عينيه شيئا فشيئا، و قام من مكانه و الدم يغلي من عروقه حتى برزت عضلات ساعديه من جديد، و صرخ فيها: "مــاذا؟ جرعة مهلوسات؟ ريان؟ أأنتِ جادة؟ من أين لها بها؟ " اغرورقت عيناها بالدموع و هي تحاول إخراج الكلمات بشكل صحيح: "أنا.. نفسي.. لا أدري.." ثم التقطت أنفاسها و استأنفت: "لك أن تتخيل وجوهنا عندما قالها الطبيب، أصيبت أمي بعد سماعها الخبر بانهيار عصبي احتجزت على إثره في قسم العناية المشددة، و ننتظر أن تصحو." فغر فاه دهشة و قال بنبرة ساخرة متألمة: "هاه.. إذن فقد ذهب قسمنا أدراج الرياح... ريان.. أظنني في النهاية أصبحت مثله لا أكثر ولا أقل و لم أجده حتى.. يا للسخرية " "القسم" بقوله لذلك، كأنما أشعل في ذاكرتها فتيل تلك الذكريات. كان قد وقف من مكانه و هرول مسرعا إلى غرفتهما يبحث بين أغراض ريان عمّا يمكن أن يعتبره دليلا يقوده إلى الذي فعل بها ذلك، بينما غاصت سناء في شرود سرمدي كأنما تعيش ذاك الماضي حاضرا. تَذكرُ كيف كانت أيام طفولتها الأولى مشرقة فياضة بالحنان و الأمان، و كيف كانت العلاقة بين والديها سمنا على عسلِ، يضرب بها المثل في التمسك بالحب الذي سرعان ما اندثر. أجل، فقد أخذ أبوها يتغير شيئا فشيئا بعدما أنجبت أمها عماد. كانت قد وهبت عمرها لأطفالها و إذ لم تجد منه عونا في تربيتهم، راحت تبذل روحها مضاعفة من أجل كلّ واحد منهم، تسهر مع هذا، و تغسل ملابس ذاك، و تطبخ لهذه، و تُدَرّس هذا، و تتحمل صراخهم وبكاءهم و مشاكلهم كلّها وحيدة كأنها أرملة. كانت أمها دافعها لتترك الدراسة في المرحلة الثانوية دون ان تكملها. ذلك أنها كانت تتوق إلى اليوم الذي تستلم فيه هذا الحمل الثقيل عنها و تتركها ترتاح و تعالج جراح الهجر و الحرمان. عثر على هاتفها المحمول و صندوق صغير مخفي خلف سريرها. عاد إلى غرفته و شرع يحاول اختراق نظام حماية الهاتف؛ ثم راح يبحث في سجل المكالمات ليتفاجأ من أرقام كثيرة سجلت بأسماء غريبة مرّ عليه بعضها، لفت انتباهه تكرر اسم معين و رسائل نصية تحمل في طياتها تهديدات و طلبات جعلت عروقه تتعطش للقتل. أهذه ريان البريئة التي لم يكن يمضي يوم في السابق إلا و تروي له ما مرت به بأدق التفاصيل. منذ متى لم يتحدثا..؟ منذ متى لم يسألها عمّا تحتاجه، عما ينقصها؟ أخذ يلوم نفسه على الوقت الذي أفناه ساهرا تحت شجرة البرتقال العملاقة مع شباب العصابات. لكن، لا بأس، إنه يعرف من أين يبدأ بحثه. غادر غرفته و مرّ أمامها ليخرج من البيت من دون أن تنتبه له. تراخت أطرافها استسلاما للماضي الأليم وكانت الذكريات السوداء تتدفق إلى ما بين عينيها لقطات صافية تعيشها من جديد حقيقة تمر أمامها. الأوقات التي كان يعود فيها إلى المنزل بغتة في حال رث و ثياب بالية و جسد يتعرق خمرا. تتذكر كيف كان يتحول وجه أمه إلى قوس قزح بنفسجي مزرق بمجرد أن تبدأ في التضرع إليه لألا يغيب. كانت تحبه بجنون مفرط دفعها لفعل المستحيل حتى تحتفظ به داخل أسوار مملكة الحلال. لكنه كان وحشا كاسرا ما يلبث أن يتحول إلى حمل وديع بمجرد أن تُسمع تلك النغمة الرنانة من عدم. فكانت تلك إشارة رحيله من جديد إلى أجل غير مسمى تاركا أمهم تتخبط في أوجاعها بين نحيب الأطفال و خيانة زوج ضحت من أجله كثيرا لكن سدا. كان يتذكر ذلك كله هو الآخر في طريقه إلى منزل صديقه رامي. و في اللحظة ذاتها اخترق ذاكرتهما اليوم الذي أقسموا فيه أن يظلوا سند بعضهم البعض، و أن يكونوا سند أمهم في الحياة و أن يعوضوا أختهم الصغرى حنان الأب الذي حرموا منه جميعا. كان ذلك في أحد أيام الشتاء القارص، يوم أن احترق وجه أمه بعدما انسكبت عليها قدر الماء المغلي، تذكرا كيف هرع إياد يركض بين الأحياء بحثا عن طبيب يأتي ليسعفها. تذكرا عودة أبيهما يومها من دون سابق إنذار وكم لم تدم فرحتهم لرؤيته بعدما تجاهلهم و دخل مباشرة إلى غرفته ليجمع أغراضه و يهم بالرحيل. تذكرا كيف وقف عند الباب و صرخ فيها بالطلاق عاليا دون حتى أن ينظر في وجهها. تذكرا كيف رمى في وجه إياد حزمة أموال و رحل، و كيف ركض عماد الذي راقب كل شيء من شق باب غرفته، إلى المطبخ ليحضر ولاعة و التقط تلك الحزمة ليخرج في منتصف الليل على إثر أبيه. تذكر هو كيف لحق به و أحرق أمواله أمام عينيه و توعده بالانتقام لأمه. و كيف قرر ترك مقاعد الدراسة و الانطلاق في رحلة البحث عن أبيه الراحل لينتهي به المطاف راكنا إلى شجرة البرتقال، وكر عصابات الشباب، كل مساء يتعاطى و إياهم جرعات حشيش مضاعف. واختفى بالتدريج عماد الخلوق المجتهد، ليتجمد قلبه و تتحجر عواطفه. أدرك متأخرا أن انقلابه ذاك كان أحد أصابع اليد التي أخذت أخته من بينهم بغتة إلى جحيم مجهول. مرّت ستة أشهر بالتمام و الكمال في لمح البصر. داخل غرفة خاصة، تجمعوا حول ذلك السرير الأبيض الذي تمددت فيه ريان و هي ما تزال فاقدة الوعي. كان واقفا يتأمل وجهها الملائكي الصغير و قد عزلته الأجهزة الطبية عنهم، و أمه بجانبه تجلس على كرسيه المتحرك في صمت ذريع عاجزة عن الكلام بعدما أصابها شلل نصفي جراء الصدمة. كانت سناء تقف مقابلة له هي الأخرى و بيدها باقة ورد و شرعت تقول: "متى ستفيقين يا ريان، اليوم هو ميعاد زفاف إياد، اليوم ستنضم إلينا أخت جديدة، لقد كنتِ تحبينها كثيرا أليس كذلك؟ " كانت كلماتها أوتادا تُغرس في قلب عماد الذي اكتشف الكثير. كان ينظر إليها بعيون ثابتة و قد عزم على اتخاذ القرار الصحيح. منذ اليوم الذي أخدت فيه إلى المشفى، لم يغمض له جفن، و لم يرتح له بال. في تلك الليلة توجه إلى أحد أصدقاءه المنخرطين في أشهر عصابات المخدرات، و من يومها و هو يجري أبحاثه في سرية مطلقة. كان قد كسر الصندوق ليجد كراسة يوميات صغيرة فتحها و شرع يقرأ كلّ ما كتب فيها. أطلع صديقه عليها و استطاعا معرفة الكثير. أدرك أن صغيرته قد وقعت ضحية إحدى العصابات التي استهدفت المراهقين من مختلف المتوسطات، وتم دس العقاقير في أكلها ومشروبها من دون أن تدري. كانت ريان تكتب في المذكرة كل ما مرّت به. أحزنه مقدار الألم الذي كدسته في قلبها الصغير، و من أكثر ما ضاعف مواجعه أنه اكتشف أنها في الحقيقة تحمل همهم جميعا في أعماقها و هم الذين اعتقدوا أنهم نجحوا في تعويضها حنان الأب. "إذن، خلف كل تلك المشاكسات و المقالب التي طالما أضحكتنا جميعا، هذا ما كنت عليه من الداخل، قلبا مضطربا حد الموت..." كان قلبه يخاطبها بهذه العبارة كلما زارها، ثم يلعن نفسه و يغادر شاعرا بالعار. غادر المشفى مع أمّه و سناء التي كانت تدفع كرسيها المتحرك ليتوجهوا إلى بيت والد رنا أين ينتظرهم إياد مع موكب العرس. وبينما هو يقود السيارة التي أحضرهم بها، تابع عقله التفكير على مهل. قبل أيام، تلقى اتصالا من صديقه يخبره أن يأتي إلى عنوان ــــــ ففعل ذلك من فوره ليجد نفسه أمام بقايا مباني مهجورة قيل أنها رابت في زلزال 2003 و لم يفكر أحد في ترميمها فأصبحت وكرا للدعارة و المجون. أخبره صديقه أنه هنا سيكتشف من يكون "نار" الذي طالما تكرر اسمه في سرد يوميات ريان. ولج إلى البناية التي ظلت متماسكة من بينها جميعا ليجد سلالم غير مكتملة تقود إلى طوابق مهجورة تآكل بنيانها. صعد الدرج شيئا فشيئا ليصل إلى طابق استشعر فيه وجود أشخاص. انتهى إلى سمعه صوت أنثوي يعرفه جيدا، ففتح عينيه على اتساعهما و تقدم بخطوات مكتومة حتى استطاع الاقتراب من الجلبة التي أخذت تعلو. كان الباب متشققا فاستطاع تقريب عدسة تصوير هاتفه ليصور ما يجري داخل الغرفة. و بمجرد أن نظر إلى الفيديو اعتلت وجهه الصدمة.. "هذه رنا.." نعم إنه صوتها و هيئتها أيضا.. لكن أيعقل ذلك؟ رنا؟ الفتاة الطيبة التي كانت تزورهم باستمرار. رنا ابنة قصاب الحي الثاني الذي لا يذكره احد إلا و يدعو له بالخير. أيعقل؟ ثم و كأن ريحا صفعته ليربط الأحداث فأدرك كل شيء. "رنا" "نار".. إنه تلاعب بالحروف إذا. "يا لذكائك يا ريان.. أم كان ذلك خوفكِ من أن يطلع أحد على مذكراتك فيدرك معاناتك... " أعاده بوق السيارة أمامه إلى الطريق التي يقودها، يبدو أنه عالق في الزحام، تحسس بيده اليمنى جيب جهة الأيسر مستشعرا مفكرة ريان. لن يسامح نفسه أبدا. اعتصرت عروقه و عقله يقرأ بصوتها عبارة ظلّت محفورة في قلبه للأبد: " يا رب.. لم أكن أعلم أنها مخدرات.. اكتشفت أن ما أمر به ليس إلا أعراض الإدمان.. و أن تلك لم تكن حلوى هلامية.. لكنها عقاقير.. يا رب سامحني.. ماذا لو اكتشف عماد أمري.. كيف سأواجه إياد.. لن أستطيع النظر في عينيه و إخباره.. لن أستطيع الذهاب إلى أي طبيب لأعالج نفسي. يا رب... أريد أن أموت و يموت سري معي.. لا أريد المزيد من العار لعائلتي... " اغرورقت عيناه لحظتها بدموع الرجال لكنه أمسكها عن النزول و عض شفتيه حنقا. فرجت الزحمة أخيرا، و اتخذ قراره النهائي، منذ هذه اللحظة لن يخفي عن إياد شيئا بعد الآن. صحيح أنه إلى الآن فشل في تحقيق انتقامه و العثور على أبيه. لكنه لن يسمح لشيء أن يعرقله عن كشف هذه الحقيقة. و سوف يفي بكلمته لنفسه هذه المرة. تابع القيادة و عقله متوقف في ذلك اليوم. أوشك على مغادرة الحي المهجور عندما عاد من فوره إلى أحد عمارة منهارة بالكامل يبحث بين أنقاضها عن مصدر هذا النحيب الذي عصر قلبه. و عند ظلّ أحد الصخور العملاقة لمح رضيعا قد غُلّف بأقمشة بالية وحده الله يعلم منذ متى و هو هنا. حمله بسرعة و غادر. داخل سيارة
توقفت به سيارة الأجرة يومها عند منزل صديقه ذاك كما طلب تماما. و نزل اليه و الرضيع بين يديه. لحسن حظه ان صديقه ذاك كان يعيش وحيدا. تذكر الدهشة التي ارتسمت على ملامحه عندما فتح له الباب ليجد عماد يمسك بين يديه رضيعا فسأله بشيء من السخرية الجادة: " ابن من هذا؟ " لكنه بدل ان يجيبه، سمح لنفسه بالدخول الى المطبخ و الرضيع بين يديه، و بعد ان روى ضمأه، التفت الى صديقه ليروي له كل شيء، بدء بهوية "نار" و انتهاء بقصة الرضيع الذي لا هوية له. رقّ قلب صديقه لهذه المأساة.. صحيح انه ابن عصابة، لكن لا هو و لا اي فرد من زمرته سيقبل ان يمارس مثل هذه الرذائل. صحيح ان دأبهم الفساد، يدخنون، يمضون أوقاتهم في مراقبة فلان و علان، و كل ملفات سكان الأحياء لديهم، يضيعون الوقت في أتفه الامور. لا صلاة، لا دين، لا عمل، لا مستقبل، يحرقون أيامهم هباءً منثورا و كل واحد منهم يظن نفسه يحل مشاكله بهذه الطريقة.. لكن الامر لن يصل بهم ابدا الى الزنى، لن يصل بهم ابدا الى إنجاب مخلوقات تلعن بظل ذنوبهم طول العمر في مجتمع محدود الفكر كالمجتمع الذي نعيش فيه.. لا يميز بين الضحية و المضحي... اتصل صديقه على الفور بشقيقته المتزوجة و طلب منها ان تعتني بابن صديقه الذي سيضطر للمكوث مع زوجته في المشفى. بالتأكيد لم يكن ليخبرها الحقيقة باي شكل من الأشكال. توقف عن القيادة اخيرا عند اخر الحي الذي تسكن فيه رنا و نزل مع سناء ليضعا أمهما على كرسيها المتحرك
توجه ثلاثتهم الى بيت والد رنا الذي اكتظ بالمعازيم، كانت العمارة التي تقطن فيها ترقص طربا و فرحا لزفاف ابنة القصاب الذي احبه الناس. عند مدخل العمارة، سال عماد عن اياد فأخبره الشباب انه صعد ليخرجها من بيت أبيها في وسط الزغاريد. عندها، التفت الى سناء بحزم :" اسمعي، سأترك امي معك لتبق عيناك يقطتان" و تسلق الدرج تسبق خطواته عددها حتى وصل الى الشقة المنشودة، وقف عند عتبتها، فعلت الزعاريد من جديد لقدوم اخ العريس،
سأل النسوة في حياء عن مكان اخيه، فأخبرنه مشيرات أنه في الغرفة التي فيها رنا، و قبل ان يكملن التوضيح هرول الى الغرفة و انقلب الحياء الى شرر. في غمرة الذهول، دفع الباب بقوة فاجأت إياد الذي كان واقفا و خلفه رنا تجلس على كرسي توسط الغرفة في حضور امها و بعض النسوة. صفق الباب من خلفه بقوة و التفت اليها: " لقد أحبتكِ ريان كثيرا، أتعلمين ماذا كتبت عنكِ في يومياتها ؟ "
ابتلعت ريقها فجأة، و انقلبت ملامحها إلى الذعر. التفتت اليه اياد أطرشا في الزفّة: " نعلم جميعا ان ريان احبت رنا، لكن عن أي يوميات تتحدث ؟ " " أتحدث عن هذه " و أخرج من سترته دفتر يوميات ريان، و ناوله إياه. اعتلى وجهه الذهول و أكل القط لسانه و هو يقلب صفحات المفكرة. كان يقرأ ما خطته في سرعة جنونية متعطشا لفهم ما يجري. و خَر جالسا على الارض ما إن قرأ تلك العبارة التي كتبتها: "يا رب .. لم أكن أعلم انها مخدرات... الى آخر ما كتبته " اغرورقت عيناه بالدموع و تابع القراءة بالوتيرة ذاتها حتى انتهت، فأغلق دفتيها و التفت الى رنا متسائلا: " هل أنتِ نار التي ذكرتها ريان ؟ "
" كانت ريان عاشقة للرموز، تحب التشفير، كنت احب سماع قصصها المشفرة و هي طفلة.. هل انت نار يا رنا ؟ "
قاطعه عماد بصراخ اخترق الطرب الذي كان قائما ليضع له حدا: " لكن لماذا..؟ لماذا اخترت ريان ؟ ما الذي فعلته لكِ هاا ؟" في تلك اللحظة دفع باب الغرفة أبوها القصاب، و تقدم مستفسرًا عن سر الجلبة الآي تحدث. لكن الفرحة ما فتئت تتلاشى من وجهه ما إن رأى إياد منهارا، فالتفت اليه عماد: " يا عّم.. ابنتك رنا هي التي دست العقاقير لأختي ريان.. هي السبب وراء ما تعانيه الان.. " لكن صفعة قوية طالته، و استشاط ابوها غضبا فصرخ فيه: " ما بك ايها المعتوه ! كيف تجرؤ على اتهام ابنتي الوحيدة هكذا! هذه رنا التي يعرفها الجميع ! زِن ما تقول او انقلع ! " تحسس موضع الصفعة، و نطق بصوت متحسر في اللحظة التي وصلت فيها اخته اليه بعد ان تركت امها في احدى غرف الشقة و قد استسلمت للنوم من تعب الطريق. " يا عّم.. امضيت ست شهور أبحث عمن فعل بأختي ما فعل، اتصلت بأحد معارفي الذي له اطلاع واسع بعالم العصابات، و له معارف في قسم الشرطة و فتحنا تحقيقا خاصا لا يعلم بأمره احد سوانا... " ثم قَص عليه ما مر به و عن البناية المهجورة و بمجرد ان أنهى كلامه ناوله الفيديوهات التي التقطها هاتفه.
ما ان رأى الفيديوهات حتى امحت ألوان وجهه فكأنما شاخ فجأة من هول ما يرى، تقدم اليها في خطوات ثابتة و سحبها من شعرها إليه: " ما الذي كنت تفعلينه هنا؟ من هؤلاء يا رنا؟ تكلمي من هؤلاء. " عندما ادركت انها حوصرت فعلا، و ان الاوان قد ان للحساب، ضحكت ساخرة ثم قالت ببلادة لم يعهدها فيها احد: " اذن رجالك من كانوا يتعقبونني..." في تلك الساعة، انقبض قلب أبيها، القصاب الطيب، و سالها معاتبا متحسرا محاسبا : لماذا يا رنا؟ هل كان خطئي انني أفرطت الثقة بكِ؟ ام كان اني دللتكِ حتى أصبحتِ تخضرين بنات الناس الى هنا لتدسي لهم تلك السموم ؟ هل كان يجب علي تقييد حريتك ؟ اين الخطأ أين.. أين !!! " قالها و الدمع ينسكب من عينيه حسرة، لكنها ابتسمت ببلادة مطلقة و اجابته بما شلّ قلبه للأبد: " خطأك كان انك لم تسال عني يوما، كنت القصاب الطيب بين الناس، و اكتفيت بزوجتك هذه و نسيتني.. و نسيت أمي.. خطأك أنك كنت لا
تكترث لما أمر به، كان همك ان توفر لي الملابس و المأكل و المشرب.. لو انك خصصت لي وقتا تحدثني فيه، تسمع لمشكلاتي مثلما كان يفعل هذا -اشارت لإياد- و مثلما كان يفعل الذين سبقوه لما آلِ بي الامر الى هنا! لكنك كنت سعيدا بكونك القصاب الطيب، و كنت سعيدا بزوجتك هذه و نسيت ذكرى امي! لن استطيع مسامحتك ابدا"
كان سيصفعها، لكن سبقه الأجل، فما إن رفع يده اليها حتى هوى إلى الارض جثة هامدة. قتله العار، هذا الانسان الشريف الذي أفنى حياته معتقدا انه الأب المثالي و الزوج الحنون، يكتشف في نهاية الامر انه لم يقدم شيئا قط، و ان كل تلك السمعة الطاهرة التي تمتع بها بين الناس قد دنست في الوحل و اصبحت سرابا لا جوهر له! ركضت زوجته اليه بعدما صدمتها الفضيحة، و لم يكن يتحرك. كان ميتا بالفعل! فقامت الى رنا و أخذت تصفعها! " ما الذي فعلته بأبيك ايتها الحمقاء! كان يحبك أيما حب، و كذلك كنت افعل و انا التي لم ارزق بالذرية، كنت ابنتي و هدية وهبت الي من السماء، أحببتك رغم عنادك، رغم لسانك السليط... و الاان في مثل هذا اليوم الذي انتظرناه طويلا.. تأتين لتقولي هذه الحماقات!! " كانت زوج ابيها امراة راجحة العقل، لم تسيء اليها قط، رغم انها كانت طفلة نرجسية تملكية و مع ذلك فقد سايرتها قدر الامكان متفهمة ما تعانيه وهي ترى امرأة اخرى تحتل عرش امها في البيت. وقف اياد اخيرا، و هم يعود ادراجه بعد ان ألغى الزفاف، و راحت سناء تحضر امها ليغادروا ذاك البيت الى منزلهم في لوعة القهر و الاستياء! لم تتوقف سناء عن البكاء بصمت على طول الطريق! كما فعل إياد و عماد الذي كان يقود السيارة. أطبق الصمت وقتا طويلا قبل ان ينطق اياد: "سآخذ امي الى خارج البلاد لعل حالها تتحسن هناك" أجابه أخوه من دون أن ينظر اليه: "أخبرني الطبيب أن حال ريان مستقر، سوف تعود إلينا في وقت قريب" " و ما الذي تنوي فعله الآن؟ " " سأستمر في بحثي عن ذاك العجوز و سأنتقم لأمي " لاحظ التوتر الذي انتصب على وجه اخيه؛ فابتسم واعدا: " لا تقلق، اذهب مطمئن البال، سوف ابحث عن عمل يسد رمقنا نحن الثلاثة في غيابك"
"في الحقيقة افكر في أخذ ريان معنا الى الخارج بعد ان تستعيد وعيها.. " " سيكون ذلك جيدا لها " ثم فتح درج السيارة الأمامي و اخرج حزمة ورقية صغيرة ناولها اياه: " هذه أموال كنت ادخرتها من السنوات السابقة، كنت انوي أن تكون هذه هدية زواجك يا أخي.. أرجو ان تنفعك "
فتكلمت سناء بعد ان احمرت عيناها من البكاء الطويل: "يبدو أننا قد وفينا بقسمنا في النهاية.. و بقينا سندا لبعضنا كما تعاهدنا دائما" ابتسم الثلاثة بشيء من الأمل وقد وصلوا الى البيت. لم يبعد منزلهم كثيرا عن منزل ابي رنا، غير ان الصدمة جعلت كل شيء يبدو ممتدا في الزمن. و عندما هموا بالنزول، ناداه صديقه الذي تحدث عنه، وًتقدم اليه ليستعيد سيارته و في يده ذلك الرضيع ملفوفا بقماش جديد، فمشى إليه ليعيد المفاتيح تاركا خلفه اياد و سناء يتعاونان على رفع كرسي أمهما و صعود الدرج الى الشقة.
" ها هي أمانتك يا صديقي" قالها وهو يناوله المفاتيح، فرد عليه مباشرة: " و ها هي امانتك يا صديقي" فسلمه الرضيع بحرص شديد. " اهو ذكر ام انثى ؟" " إنها أنثى.. ما الذي عزمت القيام به؟ " " سأتولى تربيتها بنفسي بمساعدة سناء.. " " اعانك الله على ذلك" ثم توادعا، و ركب صديقه السيارة و رحل. عند مدخل الشقة انفجر ضاحكا و هو يقرأ نظرات الاتهام تنبعث من عيني أخويه. لكنه دخل الى الداخل و أغلق الباب من خلفه لتغلق معه أبواب هذه القصة.
بعد أسابيع، استيقظت ريان لتجد اخوتها من حولها و معهم طفل لم تعرفه، جالت بعينيها بحثا عن امها التي فاجأت الجميع بان استعادت قدرتها على النطق اخيرا ليكون " ريان" اول ما تنطق به . عانقها الجميع بقوة و غادروا في نشوة العيد الى المنزل ليسطروا البداية الجديدة. بعد شهر، ها هما يعودان من مطار الهواري بومدين بعد ان ودعا اياد و ريان و امهم. تولت سناء تربية الطفلة التي سجل اياد كافلا لها، و عثر عماد على عمل ملائم انساه الشلة تدريجيا، اذ انه قرر ان يكرس حياته لأهله من الآن و صاعدا.. ليحقق قسمه على اكمل وجه. و مازال يبحث عن ابيه و يقتفي اثاره في الخفاء منتظرا قدوم اليوم الذي يحقق فيه انتقامه!
من مسابقة نادي القراء الصيفية
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق